(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)
____________________________________
مُغْرَقُونَ) ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها وملكت من غرر المزايا ناصيتها وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمرى إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحرى بنا أن نوجز الكلام فى هذا الباب ونفوض الأمر إلى تأمل أولى الألباب والله عنده علم الكتاب (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أى أراد ذلك بدليل الفاء* فى قوله تعالى (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وقد وعدتنى إنجاءهم فى ضمن الأمر بحملهم فى الفلك أو النداء* على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) أى وعدك ذلك أو إن كل وعد تعده حق* لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنك أعلمهم وأعدلهم أو أنت أكثر حكمة من ذوى الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاء أيوب عليه الصلاة والسلام إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (قالَ يا نُوحُ) لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون* كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم بقوله تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أى ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم فى الفك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ثم علل عدم كونه منهم* على طريقة الاستئناف التحقيقى بقوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة كما فى قول الخنساء [فإنما هى إقبال وإدبار] وإيثار غير صالح على فاسد إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هى لصلاحه وقرأ الكسائى ويعقوب إنه عمل غير صالح أى عملا غير صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنيا على ما ذكر من اعتقاد كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهى عن سؤال إنجائه إلا أنه جىء بالنهى على وجه عام يندرج فيه ذلك* اندراجا أوليا فقيل (فَلا تَسْئَلْنِي) أى إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب منى (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذى هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذى هو مفعول مطلق فيكون النهى وارادا بصريحه فى كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب فيكون النهى وارادا فى مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريح فى أن نداءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وعلا ليس استفسارا عن سبب عدم إنجاء ابنه مع سبق وعده بإنجاء أهله وهو