(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)
____________________________________
لا بد لهم من مظلة ومقلة دائمتين يكتفى فى تعليق دوام قرارهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على* تفاصيل أحوالهما وكيفياتهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وقوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وقوله تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعنى أنهم مستقرون فى النار فى جميع الأزمنة إلا فى زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق* الوجوب على الله تعالى قال (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يعنى إنه فى تخليد الأشقياء فى النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتيب الأجزية على أفعال العباد والعدول من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابة وزيادة التقرير وقيل هو استثناء من الخلود فى عذاب النار فإنهم لا يخلدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أخر من العذاب وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله تعالى عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وأنت تدرى أنا وإن سلمنا أن المراد بالنار ليس مطلق دار العذاب المشتملة على أنواع العذاب بل نفس النار فما خلا عذاب الزمهرير من تلك الأنواع مقارن لعذاب النار فلا مصداق فى ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين فى العذاب الجسمانى الذى هو عذاب النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهى العقوبات والآلام الروحانية التى لا يقف عليها فى هذه الحياة الدنيا المنغمسون فى أحكام الطبيعة المقصور إدراكهم على ما ألفوا من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقى ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية إذا ألقى إليهم ولذلك لم يتعرض لبيانه واكتفى بهذه المرتبة الإجمالية المنبئة عن التهويل وهذه العقوبات وإن كانت تعتريهم وهم فى النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون به وهذه المرتبة كافية فى تحقيق معنى الاستثناء هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفق بما ذكر وقيل ما بمعنى من على إرادة معنى الوصفية فالمعنى إن الذين شقوا فى النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودهم فيها وهم عصاة المؤمنين (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) الكلام فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم فيها بهجة وسرورا كما ذكر فى أهل النار من أنه لهم فيها زفير وشهيق لأن* المقام مقام التحذير والإنذار (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله سبحانه (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يقتضى إعطاء وإنعاما فكأنه قيل يعطيهم عطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى (أَنْبَتَكُمْ