(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤)
____________________________________
وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم فى الكذب والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلى فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه فى الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له بل هو نقيض لمدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا وإسناده إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه صلىاللهعليهوسلم بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم ومن لم يتنبه لهذا قال حتى يتبين لك من صدق فى عذره ممن كذب فيه وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما هذا وفى تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلىاللهعليهوسلم وتعهده بحسن المفاوضة ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولى الألباب. قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت هب أنه كناية أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف فى الخطاب والتخفيف فى العتاب وهب أن العفو مستلزم للخطأ فهل هو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ولا يخفى أنه لم يكن فى خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عزوجل (لَوْ خَرَجُوا) الخ وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) الآية. نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذى أثير ويفتضحوا على رءوس الأشهاد ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلىاللهعليهوسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تنبيه على أنه كان ينبغى أن يستدل باستئذانهم على حالهم ولا يؤذن لهم أى ليس من عادة المؤمنين أى يستأذنوك فى (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) وأن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن* فضلا عن أن يستأذنوك فى التخلف وحيث استأذنك هؤلاء فى التخلف كان ذلك مئنة للتأنى فى أمرهم بل دليلا على نفاقهم وقيل المستأذن فيه محذوف ومعنى قوله تعالى (أَنْ يُجاهِدُوا) كراهة أن يجاهدوا ثم