الكلام حذف على قراءة الجماعة فالتقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا ، ونظيره (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] فتقديره : وسرابيل تقيكم البرد فحذف لأن ما وقى الحرّ وقى البرد ، ولأنّ الغل إذا كان في العنق فلا بد من أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال جلّ وعزّ : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فقد أعلم الله جلّ وعزّ أنها يراد بها الأيدي. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أجلّ ما روي فيه ما حكاه عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الأقماح فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال أبو جعفر : وكان هذا مأخوذا مما حكاه الأصمعي قال : يقال أكمحت الدّابّة إذا جذبت لجامها لترف رأسها. قال أبو جعفر : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها ، كما يقال :
قهرته وكهرته. قال الأصمعي : ويقال : أكفحت الدابة إذا تلقّيت فاها باللجام لتضربه به. مشتقّ من قولهم : لقيته كفاحا أي وجها لوجه ، وكفحت الدابّة بغير ألف إذا جذبت عنانها لتقف ولا تجري.
قال محمد بن إسحاق في روايته : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأميّة بن خلف يراصدون النبي صلىاللهعليهوسلم ليبلغوا من أذاه فخرج عليهم يقرأ أول «يس» وفي يده تراب فرماهم به ، وقرأ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) إلى رأس العشر ، فأطرقوا حتى مرّ النبي صلىاللهعليهوسلم وقد قيل إن هذا تمثيل كما يقال : فلان حمار أي لا يبصر الهدى ، كما يقال : [البسيط]
٣٥٩ ـ لهم عن الرشد أغلال وأقياد (١)
وقراءة ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر وعمر بن عبد العزيز (فَأَغْشَيْناهُمْ) (٢)
قال أبو جعفر : القراءة بالغين أشبه بنسق الكلام ، ويقال : غشيه الأمر وأغشيته إياه فأما فأغشيناهم فإنّما يقال لمن ضعف بصره حتى لا يبصر بالليل ، أو لمن فعل فعله ، كما قال : [الطويل]
٣٦٠ ـ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره |
|
تجد خير نار عندها خير موقد (٣) |
قال قتادة : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى.
__________________
(١) الشاهد للأفوه الأودي في ديوانه ص ١٠.
(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٣١٢.
(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٩).