(ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) : أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده ، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه.
(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : أي لننزلنّهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار.
(الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها ، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.
معنى الآيات :
لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى ، فناداهم بقوله عزوجل : (يا عِبادِيَ) (١) (الَّذِينَ آمَنُوا) أي بي وبرسولي ولقائي (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فهاجروا فيها ، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين ، (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) لا تعبدوا معي غيري. وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتا ولا فقرا فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وقوله : (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢) ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه ، ومن رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٣) أي لننزلنّهم من الجنة دار الإسعاد (غُرَفاً
__________________
(١) قال القرطبي هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة وهو كذلك إلّا أنها عامة في كل من منع من عبادة الله تعالى في أرض عليه أن يهاجر إلى أخرى يعبد الله تعالى فيها إذ العبادة هي علّة خلقه ووجوده لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
(٢) قرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) وقرأ البعض بالياء يرجعون.
(٣) روى مسلم : (أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم ، وقيل له صلىاللهعليهوسلم تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال : بلى والذي نفسي بيده رجال امنوا بالله وصدّقوا المرسلين).