ولقد روت الروايات (١) أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي صلىاللهعليهوسلم طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون ، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها ، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي صلىاللهعليهوسلم التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة.
فمن الممكن أن يقال إن النبي صلىاللهعليهوسلم كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين ، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعيمق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى الله من بينهم ، فأتم الله إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨).
ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي صلىاللهعليهوسلم إلى عهد نبوته لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا ، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في آية سورة القصص هذه : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [٨٦] وفي آية سورة الشورى هذه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) وفي آية سورة يونس هذه : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا
__________________
(١) انظر الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب في كتابنا عصر النبي عليهالسلام وبيئته قبل البعثة ص ٣٩٦ ـ ٤٣٤ وانظر سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢١٥ ـ ٣٢٣ وج ٢ ص ١٠٣ ، وص ١٧٧ ، ١٧٨ وطبقات ابن سعد ج ١ ص ٢٠٢ وتفسير الرازي ج ١ ص ٣٦٩ ، ٣٧٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٢٧ ـ ٣٢٩.