الأغيار والإقرار بكونه فاعل الخير والشرّ بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) لاحتجابهم بصفات النفوس وارتجاج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي. ثم بيّن أنّ لله فضلا وعدلا ، فالخيرات والكمالات كلها من فضله ، والشرور من عدله ، أي : يقدرها علينا ويفعلها بنا لاستعداد واستحقاق فينا يقتضي ذلك. وذلك الاستحقاق إنما يحدث من ظهور النفس بصفاتها وارتكابها المعاصي والذنوب الموجبة للعقاب لا بفعل آخر كما نسبوا ما أصابهم من الشرّ إلى الرسول ، لأن الاستحقاق مرتب على الاستعداد ، ولا يعرض ما يقتضيه استعداد أحد لغيره ، كما قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ، فكذّبهم وخطّأهم في قدريتهم بإثبات أنّ : السبب الفاعليّ للخير والشرّ ليس إلا لله وحده بمقتضى فضله وعدله. وأما السبب القابلي فهو وإن كان أيضا منه في الحقيقة إلا أن قابلية الخير هو من الاستعداد الأصلي الذي هو من الفيض الأقدس الذي لا مدخل لفعلنا واختيارنا فيه ، وقابلية الشرّ من الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب ، المكدّرة لجوهره ، حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب لا من قبل الرسول أو غيره.
[٩٧ ـ ٩٩] (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩))
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إلى آخره ، التوفي هو : استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه ، وهو على ثلاثة أوجه : توفي الملائكة ، وتوفي ملك الموت ، وتوفي الله. أما توفي الملائكة فهو لأصحاب النفوس وهم أما سعداء وأهل الخير والصفات الحميدة والأخلاق الحسنة من الصالحين المتّقين (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)) (٢) فمعادهم إلى جنة الأفعال. وإما أشقياء أهل الشرّ والصفات الرديئة والأخلاق السيئة فلا يقبض أرواحهم إلا القوى الملكوتية التي هي للعالم بمثابة قواهم التي هم في مقامها ، محتجبون بصفات النفس ولذّات القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية من الكافرين : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (٣) فمعادهم إلى النار. وأما توفي ملك الموت
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤.
(٢) سورة النحل ، الآية : ٣٢.
(٣) سورة النحل ، الآية : ٢٨.