فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب ، ورجعوا إلى الفطرة ، فتنوّروا بنورها ، فتقبض أرواحهم النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم باتصالهم بها ، هذا إذا قبض أرواحهم ملك الموت بنفسه ، أما إذا قبض بأعوانه وقواهم فهم الفريق الأول. وقد يقبض بنفسه ويذرهم في ملكوت العذاب حتى يحاسبوا ويعاقبوا بحسب رذائلهم ويتخلصوا ، وذلك للكمال العلميّ والنقصان العلميّ كما خلص من الجهل والشرك وتحلّى بالعلم والتوحيد ، ولكن تراكمت على قلبه الهيئات المظلمة والملكات الرديئة بسبب الأعمال السيئة والأخلاق الذميمة. وللعلم بالتوحيد والجهل بالمعاد كالموحد المنكر للجزاء ، فينهمك في المعاصي كما قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١). وأمّا توفي الله تعالى ، فهو للموحدين الذين عرجوا عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربّهم حجاب ، فهو يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)) (٢) ، كما قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٣).
(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها (فِيمَ كُنْتُمْ) حيث قصرتم في السعي لما قدرتم وفرّطتم في جنب الله ، وقصرتم عن بلوغ كمالكم الذي هيئ لكم وندبتم إليه (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) في أرض الاستعداد الذي جبلنا عليه باستيلاء قوى النفس الأمّارة وغلبة سلطان الهوى بشيطان الوهم ، أسرونا في قيودهم ، وجبرونا على دينهم ، وأكرهونا على كفرهم. (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم خطوات يسيرة ، بحيث إذا ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى ، وتقوّيتم بإمداد أعوانكم القوى الروحانية ، ونصرتم بأنوار القلب ، فخرجتم عن القرية ، الظالم أهلها ، التي هي مدينة النفس إلى بلد القلب الطيبة ، فتداركتم رحمة ربكم الغفور (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) نفوسهم الشديدة التوقان مع حصول الحرمان (وَساءَتْ مَصِيراًإِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ) أي : أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوّة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذهبوا لقواهم الوهمية والخيالية ، فيبطلوا استعداداتهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنوّر استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود (وَالنِّساءِ) أي : القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي ، وسلوك طريق التحقيق ، الضعفاء القوى والأحلام ، الذين قال في حقهم : «أكثر أهل الجنة البله»
__________________
(١) سورة السجدة ، الآية : ١١.
(٢) سورة مريم ، الآيه : ٨٥.
(٣) سورة الزمر ، الآية : ٤٢.