يملك دون من ، وإن كان المراد عيسى للتنبيه على أنه شيء يعتبر اعتبارا من حيث تعينه ولا وجود له حقيقة (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) بالاحتجاب عن أنوار الصفات (وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا) الآن (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) طريق الوحدة الذاتية التي هي الاستقامة إلى الله.
[٨٢ ـ ٨٥] (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥))
(لَتَجِدَنَ) إلى آخره ، الموالاة والمعاداة إنما يكونان بحسب المناسبة والمخالفة ، فكل من والى أحدا دلّ على رابطة جنسية بينهما ، وكل من عاداه دلّ على مباينة ومضادّة بينهما. ولما كان اليهود محجوبين عن الذات والصفات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال كانت مناسبتهم مع المحجوبين المشركين مطلقا أقوى من مناسبتهم مع المؤمنين الموحدين مطلقا. ولما كان النصارى برزوا من حجاب الصفات ولم يتولّهم إلا حجاب الذات كانت مناسبتهم مع المؤمنين أقوى ، فلذلك كانوا أقرب مودّة لهم من غيرهم. والمشركون واليهود أشدّ عداوة لقوّة حجابهم ، أما ترى كيف علل قربهم في المودة بعلمهم وعبادتهم وعدم استكبارهم؟ ، فإن العبادة توصل إلى جنة الأفعال لتجرّدهم فيها عن أفعال نفوسهم فاعلين ما أمر الله ، والعلم يوصل إلى جنة الصفات لتنزّههم به عن جنة النفوس والوصول إلى مقام القلب الذي هو محل المكاشفة وقبول العلم الإلهي ، وعدم الاستكبار يدل على أنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفات العبادة والعلم ولا نسبوا فعلهم وعلمهم إليها بل إلى الله وإلا استكبروا وأظهروا العجب.
(تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) شوقا إلى ما عرفوا من توحيد الذات لأنهم كانوا أهل رياضة وذوق فهاجت نفوسهم بسماع الوحي وذكروا الوحدة (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) بصفاته أو سمعوا من الحق كلامه ، فبكوا اشتياقا كما قال :
ويبكي إن نأوا شوقا إليهم |
|
ويبكي إن دنوا خوف الفراق |
(آمَنَّا) بالتوحيد الذاتي إيمانا عينيا فاجعلنا من (الشَّاهِدِينَ) الحاضرين الذين مقامهم الشهود الذاتي واليقين الحقيّ ، وإيمانا علميا يقينيا فاجعلنا مع المعاينين (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) إيمانا حقيقيا بذاته وما جاءنا من كلامه أو لا نؤمن بالله جمعا (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) تفصيلا