وأعرضوا عن الحجج البينات ، لأنهم كانوا محجوبين بالحسّ والمحسوس ، فلم تنجع فيهم الدعوة بالحكمة والإثبات بالحجة كما تنجع في العقلاء المستعدّين. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ) أي : خوارق العادات التي اقترحوها إنما هي من عالم القدرة ليست إلا عنده (وَما يُشْعِرُكُمْ) أنهم لا يؤمنون عند مجيئها ، أي : أنا أعلم بهم منكم أنهم لا يؤمنون بها ، أو وما يشعركم أنهم يؤمنون عند مجيئها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، ومن لم يرد الله منه الإيمان يقلب قلبه وبصره عند مجيء الآية التي اقترحها وزعم أنه يؤمن عند نزولها ، فيقول : هذا سحر ، ولا يؤمن به كما لا يؤمن قبل مجيء الآية ويذره في ظهور نفسه بصفاتها واحتجابه بها ، ولهذا قال في آخر الآية الثانية : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يعني : من استعدّ للإيمان فهم المعقول وأدرك الحجة ، وانفتحت عين بصيرته بأدنى نور من هداية الله وآمن بأدنى سبب ، ومن لم يستعدّ لذلك ولم يخلق له لو رأى كل آية من خوارق العادات وغيرها ما أثر فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات ، وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات ، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا يكون إلا بالجنان ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١).
[١١٢] (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢))
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) إلى آخره ، يلزم من ترتب مراتب الأرواح أن مقابلة أصفى الاستعدادات وأنورها بأكدرها وأظلمها وأبعدها ولزم منه وجود عدوّ لكل نبيّ للتضاد الحقيقي بينهما. وفائدة وجود العدوّ في مقابلته له أن الكمال الذي قدّر له بحسب استعداده لا يظهر عليه إلا بقوة المحبة للاستمداد ، وأما القهر فلانكسار نفسه به وبإهانته واستخفافه له ، وتثبته عند مقابلته في مقام القلب وتجلده معرضا عن النفس ولذاتها لاشتغاله بالعدوّ ذاهلا عنها لفرط الحمية والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عن الملابس الحيوانية والشيطانية ليبعد بها عن مقامه ومناسبته ولئلا يتطرّق له سبيل إلى طعنه وتحقيره وازدرائه بها ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «ما أوذي نبيّ قط مثل ما أوذيت» ، إذ لا كمال لأحد مثل كماله فيجب أن يكون سبب إخراجه إلى الفعل أقوى لغاية بعده عن صفات النفس وعاداتها.
[١١٣ ـ ١١٧] (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ
__________________
(١) سورة الحجرات ، الآية : ١٤.