وبقي كربا عنده فشجعه الله تعالى بذلك ، وهيّج قوته ونشاطه بقوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين إما رفع الحجاب بأن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك ، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فكل الهداية إليه.
[١٥] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥))
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : كل من يعمل عملا وإن كان من أعمال الآخرة في الظاهر بنية الدنيا لا يريد به إلا حظا من حظوظها يوفيه الله تعالى أجره فيها ولا يصل إليه من ثواب الآخرة شيء ، فإنّ لكل أحد نصيبا من الدنيا بمقتضى نشأته التي هو عليها ونصيبا من الآخرة بمقتضى فطرته التي فطر عليها ، فإذا لم يرد بعمله إلا الدنيا فقد أقبل بوجهه إليها وأعرض عن الآخرة وجعل النصيب الدنيوي بانجذابه وتوجهه إلى الجهة السفلية حجاب النصيب الأخروي حتى انتكست فطرته وتبعت النشأة واستخدمت نفسه القلب في طلب حظوظها فصار نصيبه من الآخرة منضما إلى النصيب الدنيوي (وَهُمْ فِيها) لا ينقصون أي : لا ينقص من ثواب أعمالهم في الدنيا شيء لأنه لما تشكل القلب بهيئة النفس تمثل حظه بصورة حظ النفس.
[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وحرمانها عن مقتضى استعدادها وتألمها بما لا يلائمها من مكسوباتها (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا) من أعمال البر في الآخرة لكونها بنية الدنيالقوله صلىاللهعليهوسلم : «الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى»إلى آخر الحديث.
[١٧] (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة من ربّه يعني بعد ما بينهما في المرتبة بعدا عظيما من كان على بينة أي : يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي ويتبع ذلك اليقين (شاهِدٌ) من ربّه أي : القرآن المصدّق للبرهان العقلي في التوحيد وصحة النبوّة وأصول الدين ، ومن قبل هذا القرآن (كِتابُ مُوسى) أي : يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى في حال كونه (إِماماً) يؤتمّ به وقدوة يتمسك بها في تحقيق