والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبّرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني وتحجزها عن شأنها الخاص بها الذي هو مطالعة الغيب ومشاهدة عالم القدس يشغلها باستعمال آلات الغذاء لعمارة الجسد ، فتسلبها اللطافة والطراوة وتكدرها بالغشاوة. واحتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة وتنويرها وتطريتها بالصلاة فقال : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المذكورة وإذهاب السيئات بالحسنات تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله في الصفاء والجمعية والأنس والذوق (وَاصْبِرْ) بالله في الاستقامة ومع الله في الحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يشاهدونه في حال القيام بحقوق الاستقامة ومراعاة العدالة والقيام بشرائط التعظيم في العبادة.
[١١٨ ـ ١٢٣] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد ومقتضى الفطرة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الوجهة والاستعداد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال ، فإنهم متفقون في المذهب والمقصد وموافقون في السيرة والطريقة ، قبلتهم الحق ، ودينهم التوحيد والمحبة (وَلِذلِكَ) الاختلاف (خَلَقَهُمْ) ليستعدّ كل منهم لشأن وعمل ، ويختار بطبعه أمرا وصنعة ، ويستتبّ بهم نظام العالم ، ويستقيم أمر المعاش ، فهم محامل لأمر الله حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس ، ورتّب بهم قوام الحياة الدنيا كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله ، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي : أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأنّ جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها.
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي : لما أطلعناك على مقاساتهم الشدائد من أمّتهم مع ثباتهم في مقام الاستقامة وعدم مزلتهم عنه وعلى معاتباتهم عند تلويناتهم وظهور شيء من بقياتهم كما في قصة نوح عليهالسلام من سؤال إنجاء الولد ، وعلى