من كماله لعدم آلته ، ولا يمكن أن يرضى بحاله لقوّة استعداده الفطري الذي جبل عليه ، وشوقه الأصلي الغريزي إليه ، فهو مكظوم لا يستعتب ولا يسترضى.
[٨٧ ـ ٩٠] (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي : الاستسلام والانقياد. وقد جاء إنكارهم كقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) (١) وذلك بحسب المواقف ، فالإنكار في الموقف الأول وقت قوّة هيئات الرذائل وشدّة شكيمة النفس في الشيطنة ، وغاية البعد عن النور الإلهي للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتىلا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه ونهاية تكدّر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه. والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة حين زالت الهيئات ، ورقّت وضعفت شراشر النفس في رذائلها ، وقرب من عالم النور لرقّة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى ، فيعترف وينقاد ، هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ، ولم تغلظ حجبهم ، ولم ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن ترسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة ، واستقرّت وكثف الحجاب ، وبطل الاستعداد والله أعلم.
(وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) قد مرّ في سورة (النساء) ، (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي : العقل الفرقاني بعد الوجود الحقاني (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) تبيينا وتحقيقا لحقّية كل شيء ، وهداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله (وَرَحْمَةً) له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد وبشارة له ببقائه على ذلك الكمال أبدا سرمدا في الجنان الثلاث.
[٩١ ـ ٩٦] (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
__________________
(١) سورة المجادلة ، الآية : ١٨.