مع النبوة ، كما قال : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (١) ليتمكن من تقرير الشريعة ويضطلع بأحكام الدعوة والذكر الجميل كما قال : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٢) والصلاة والسلام عليه كما قال : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩)) (٣) (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) أي : في عالم الأرواح (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) المتمكنين في مقام الاستقامة بإيفاء كل ذي حق حقه ، وتبليغه إلى كماله وحفظه عليه ما أمكن.
[١٢٣] (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))
(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي : بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين شرّفناه وكرمناه بأمرنا باتباعك إياه (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها ، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها ، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.
[١٢٤] (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))
(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : ما فرض عليك إنما فرض عليهم فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك بل اتباع إبراهيم.
[١٢٥] (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) إلخ ، أي : لتكن دعوتك منحصرة في هذه الوجوه الثلاثة لأن المدعو إما أن يكون خاليا عن الإنكار أو لا ، فإن كان خاليا لكونه في مقام الجهل البسيط غير معتقد لشيء ، فإما أن يكون مستعدا غير قاصر عن درك البرهان بل يكون برهاني الطباع أو لا. فإن كان الأول فادعه بالحكمة وكلمه بالبرهان والحجة واهده إلى صراط التوحيد بالمعرفة ، وإن كان قاصر الاستعداد فادعه بالموعظة الحسنة والنصيحة البالغة من الإنذار والبشارة والوعد والوعيد والزجر والترهيب واللطف والترغيب ، وإن كان منكرا ذا جهل مركب واعتقاد باطل فجادله بالطريقة التي هي أحسن من إبطال معتقده بما يلزم من مذهبه بالرفق
__________________
(١) سورة النساء ، الآية : ٥٤.
(٢) سورة مريم ، الآية : ٥٠.
(٣) سورة الصافات ، الآيات : ١٠٨ ـ ١٠٩.