والمداراة على وجه يلوح له أنك تثبت الحق وتبطل الباطل لا غرض لك سواه.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) في الأزل لشقاوته الأصلية فلا ينجع فيه أحد هذه الطرق الثلاثة (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) المستعدّين ، القابلين للهداية لصفاء الفطرة.
[١٢٦] (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦))
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلخ ، أي : الزموا سيرة العدالة والفضيلة لا تجاوزوها فإنها أقلّ درجات كمالكم ، فإن كان لكم قدم في الفتوة وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم وعارضوه بالعفو مع القدرة واصبروا على الجناية فإنه (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال : لهو خير لكم ، بل قال : (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١) للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر ، فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب فلم يتكدّر بظهور صفة النفس وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه ، فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس ، وتنكسر سورة غضبه فيصلح ، وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف فلا تعاقبوا المسيء لسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا ، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
[١٢٧] (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧))
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) اعلم أنّ الصبر أقسام : صبر لله ، وصبر في الله ، وصبر مع الله ، وصبر عن الله ، وصبر بالله. فالصبر لله هو من لوازم الإيمان وأول درجات أهل الإسلام. قال النبي عليه الصلاة والسلام : «الإيمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر»، وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه ، وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله لأهل دينه وطاعته المقتضى للثواب الجزيل. والصبر في الله هو الثبات في سلوك طريق الحق ، وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار ، وترك المألوفات واللذات ، وتحمل البليّات ، وقوّة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات ، وهو من مقامات السالكين ، يهبه الله لمن يشاء من فضله من أهل الطريقة. والصبر مع الله هو لأهل الحضور ، والكشف عند التجرّد عن ملابس الأفعال والصفات ، والتعرّض لتجليات الجمال والجلال ، وتوارد واردات الأنس والهيبة ، فهو بحضور القلب لمن كان له قلب ، والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند
__________________
(١) سورة النحل ، الآية : ١٢٦.