افرط ، والآخر فرّط ، وذلك ـ كما عبر التفسير بعبارته الواسعة المبسوطة ان الناس كانوا قبل ظهور الاسلام على قسمين : قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة ، فلا هم له الا الحظوظ الجسدية ، كاليهود والمشركين ، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة ، وهجر الدنيا ، وترك ما فيها من اللذات الجسمية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من الوثنيين في الهند اصحاب الرياضات.
واما الامة الاسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين : حق الروح وحق البدن ، فهي امة مادية روحية ، فقد اعطاها دينها جميع حقوق الانسانية ، لان الانسان جسم وروح ، فكأن الآية الكريمة تقول : جعلناكم امة وسطا ، تعرفون الحقين ، وتبلغون الكمالين ، لتكونوا شهداء بالحق على الناس الماديين بما فرطوا في جنب الدين ، والروحانيين بما أفرطوا وكانوا من الغالين : تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) بأنهم أخلدوا الى البهيمية ، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحية ، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين : ان هذا الوجود حبس للارواح وعقوبة لها ، فعلينا ان نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية ، وبتعذيب الجسد ، وهضم حقوق النفس ، وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة.
تشهدون عليهم بانهم خرجوا عن طريق الاعتدال ، وجنوا على ارواحهم بجنايتهم على اجسادهم وقواها الحيوية ، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الامم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الامور كلها ، لان الاسلام الذي هداكم الله اليه وحباكم به فيه الكمال الانساني الذي
__________________
(١) سورة الجاثية ، الآية ٢٤.