وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) بيان للمنة السادسة التي امتن الله ـ تعالى ـ بها على موسى ـ عليهالسلام ـ.
والفتون : جمع فتن كالظنون جمع ظن. والفتن : الاختبار والابتلاء تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم جودته من رداءته.
والمعنى : واختبرناك وابتليناك ـ يا موسى ـ بألوان من الفتن والمحن.
ونظم ـ سبحانه ـ هذا الفتن والاختبار في سلك المنن ، باعتبار أن الله ـ تعالى ـ ابتلاه بالفتن ثم نجاه منها ، ونجاه من شرورها.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية حديثا طويلا سماه بحديث الفتون ، ذكر فيه قصة مولد موسى ، وإلقائه في اليم ، وتربيته في بيت فرعون ، وقتله للقبطي ، وهروبه إلى مدين ، وعودته منها إلى مصر. وتكليف الله ـ تعالى ـ له بالذهاب الى فرعون ، ودعوته إلى عبادة الله وحده .. إلخ (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أى : فلبثت عشر سنين في قرية أهل مدين ، تعمل كأجير عند الرجل الصالح. ثم جئت بعد ذلك إلى المكان الذي ناديتك فيه (عَلى قَدَرٍ) أى على وفق الوقت الذي قدرناه لمجيئك ، وحددناه لتكليمك واستنبائك ، دون أن تتقدم أو تتأخر ، لأن كل شيء عندنا محدد ومقدر بوقت لا يتخلف عنه.
قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وقال ـ سبحانه ـ : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) وقال ـ عزوجل ـ : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).
ثم حكى ـ سبحانه ـ المنة الثامنة : فقال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أى : وجعلتك محل صنيعتي وإحسانى ، حيث اخترتك واصطفيتك لحمل رسالتي وتبليغها إلى فرعون وقومه ، وإلى قومك بنى إسرائيل.
فالآية الكريمة تكريم عظيم لموسى ـ عليهالسلام ـ اختاره الله ـ تعالى ـ واجتباه من بين خلقه لحمل رسالته إلى فرعون وبنى إسرائيل.
هذه ثماني منن ساقها الله ـ تعالى ـ هنا مجملة ، وقد ساقها ـ سبحانه ـ في سورة القصص بصورة أكثر تفصيلا ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٩ وما بعدها.