فلما عجزوا ـ وهم أهل الفصاحة والبيان ـ ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وقوله ـ تعالى ـ : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) خبر لمبتدأ محذوف. أى : المتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده ذكريا.
ولفظ (ذِكْرُ) مصدر مضاف لمفعوله. ولفظ (رَحْمَتِ) مصدر مضاف لفاعله وهو ربك ، و (عَبْدَهُ) مفعول به للمصدر الذي هو رحمة.
و (زَكَرِيَّا) هو واحد من أنبياء الله الكرام ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهمالسلام ـ.
والمعنى : هذا الذي نذكره لك يا محمد ، هو جانب من قصة عبدنا زكريا ، وطرف من مظاهر الرحمة التي اختصصناه بها ، ومنحناه إياها.
وقوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ظرف لرحمة ربك. والمراد بالنداء : الدعاء الذي تضرع به زكريا إلى ربه ـ عزوجل ـ.
أى : هذا الذي قرأناه عليك يا محمد في أول هذه السورة. وذكرناه لك ، هو جانب من رحمتنا لعبدنا زكريا. وقت أن نادانا وتضرع إلينا في خفاء وستر ، ملتمسا منا الذرية الصالحة.
وإنما أخفى زكريا دعاءه ، لأن هذا الإخفاء فيه بعد عن الرياء ، وقرب من الإخلاص ، وقد أمر الله ـ تعالى ـ به في قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
ويبدو أن هذا الدعاء قد تضرع به زكريا إلى ربه في أوقات تردده على مريم ، واطلاعه على ما أعطاها الله ـ تعالى ـ من رزق وفير.
ويشهد لذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ، كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما نادى به زكريا ربه فقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ...) والوهن : الضعف. يقال : وهن الجسم يهن ـ من باب وعد ـ إذا ضعف.
وخص العظم بالذكر ، لأنه دعامة البدن ، وعماد الجسم ، وبه قوامه ، فإذ ضعف كان غيره من أجزاء الجسم أضعف. وإفراد لفظ العظم لإرادة الجنس.
__________________
(١) سورة آل عمران من الآيتان ٣٧ ، ٣٨.