(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) والمراد باشتعال الرأس شيبا : انتشار بياض الشيب فيه. والألف واللام في لفظ (الرَّأْسُ) قاما مقام المضاف إليه.
والمراد : واشتعل رأسى شيبا ، وهذا يدل على تقدم السن ، كما يشهد له قوله ـ تعالى ـ (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ...).
قال صاحب الكشاف : «شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر .. باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف إلى الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ...» (١).
وقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أى : ولم أكن فيما مضى من عمرى مخيب الدعاء وإنما تعودت منك يا إلهى إجابة دعائي ، وما دام الأمر كذلك فأجب دعائي في الزمان الآتي من عمرى ، كما أجبته في الزمان الماضي منه.
فأنت ترى أن زكريا ـ عليهالسلام ـ قد أظهر في دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه ، حيث توسل إليه ـ سبحانه ـ بضعف بدنه ، وبتقدم سنه ، وبما عوده إياه من إجابة دعائه في الماضي.
ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الأسباب الأخرى لإلحاح زكريا في الدعاء فقال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ..).
والموالي : جمع مولى ، والمراد بهم هنا : عصبته وأبناء عمومته الذين يلون أمره بعد موته ، وكان لا يثق فيهم لسوء سلوكهم.
والعاقر : العقيم الذي لا يلد ، ويطلق على الرجل والمرأة ، يقال : امرأة عاقر ، ورجل عاقر.
أى : وإنى ـ يا إلهى ـ قد خفت ما يفعله أقاربى (مِنْ وَرائِي) أى : من بعد موتى ، من تضييع لأمور الدين ، ومن عدم القيام بحقه (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد قط في شبابها ولا في غير شبابها ، (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أى : من عندك (وَلِيًّا) أى : ولدا من صلبي ، هذا الولد (يَرِثُنِي) في العلم والنبوة (وَيَرِثُ) أيضا (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ابن إسحاق بن إبراهيم العلم والنبوة والصفات الحميدة (وَاجْعَلْهُ) يا رب (رَضِيًّا) أى :
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤.