ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الناس يوم القيامة فقال : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ...).
والمراد بالداعي : الملك الذي يدعوهم إلى المثول للحساب.
قيل : يناديهم بقوله : أيتها العظام البالية ، والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة .. قومي إلى ربك للحساب والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه.
والمعنى : في هذا اليوم الذي تنسف فيه الجبال ، وتصير الأرض قاعا صفصفا يقوم الناس من قبورهم ، ويتبعون من يناديهم للحساب والجزاء دون أن يحيدوا عن هذا المنادى ، أو أن يملكوا مخالفته أو عصيانه ، بل الجميع يسمع دعاءه ويستجيب لأمره.
كما قال ـ تعالى ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ : مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (١).
وقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أى : وخفتت وسكنت الأصوات كلها هيبة وخوفا من الرحمن ـ عزوجل ـ فلا تسمع ـ أيها المخاطب ـ في هذا اليوم الهائل الشديد (إِلَّا هَمْساً) أى : إلا صوتا خفيا خافتا. يقال : همس الكلام يهمسه همسا ، إذا أخفاه ، ويقال للأسد : الهموس ، لخفاء وطئه.
(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أى : في هذا اليوم الذي تخشع فيه الأصوات لا تنفع الشفاعة أحدا كائنا من كان ، إلا شفاعة من أذن له الرحمن في ذلك (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أى : ورضى ـ سبحانه ـ قول الشافع فيمن يشفع له.
قال الإمام ابن كثير : وهذه الآية كقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وكقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ، وكقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ...
وفي الصحيحين من غير وجه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «آتى تحت العرش ، وأخر لله ساجدا ، وبفتح على بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقول ـ سبحانه ـ : «يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع قولك ، واشفع تشفع. قال صلىاللهعليهوسلم : فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود ، فذكر أربع مرات» صلىاللهعليهوسلم وعلى سائر الأنبياء ...
وفي الحديث : يقول ـ تعالى ـ : «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان
__________________
(١) سورة القمر الآيات ٦ ـ ٨.