أى : قال ذلك الكافر الذي حشره الله ـ تعالى ـ يوم القيامة أعمى : يا رب لما ذا حشرتني على هذه الحال مع أنى كنت في الدنيا بصيرا؟.
وهنا يأتيه الجواب الذي يخرسه ، والذي حكاه الله ـ تعالى ـ في قوله : (قالَ كَذلِكَ) أى : قال الله ـ تعالى ـ في الرد عليه : الأمر كذلك ، فإنك (أَتَتْكَ آياتُنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (فَنَسِيتَها) أى : فتركتها وأعرضت عنها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أى : كما تركت آياتنا في الدنيا وأعرضت عنها ، نتركك اليوم في النار وفي العمى جزاء وفاقا.
ثم ساق ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تختلف فقال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى).
أى : ومثل ذلك الجزاء الأليم الذي أنزلناه بهؤلاء المعرضين عن ذكرنا نجازي كل من أسرف في ارتكاب السيئات والموبقات ، وكل من لم يؤمن بآيات ربه بل كذب بها وأعرض عنها ، ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، (وَأَبْقى) منه أى : وأكثر بقاء ، وأطول زمانا من عذاب الدنيا.
ثم وبخ ـ سبحانه ـ أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ..).
والهمزة للاستفهام الإنكارى التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدر ..
والمعنى : أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتبين لهم ، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية ، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين في مساكنهم ...
وكان أهلا كنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان ، والغي على الرشد ، والعمى على الهدى ...
فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود ...
قال الآلوسى : وقوله : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) حال من (الْقُرُونِ) أو من مفعول (أَهْلَكْنا) أى : أهلكناهم وهم في حال آمن وتقلب في ديارهم. واختار بعضهم كونه حالا من الضمير في (لَهُمْ) مؤكدا للإنكار والعامل فيه (يَهْدِ). أى : أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر ، وثمود ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها .. (١).
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٨٠.