ثم بين ـ سبحانه ـ ما أكرمها به في حال خلوتها فقال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).
أى : فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل ـ عليهالسلام ـ فتشبه لها في صورة بشر سوى معتدل الهيئة ، كامل البنية ، كأحسن ما يكون الإنسان.
يقال : رجل سوى ، إذا كان تام الخلقة عظيم الخلق ، لا يعيبه في شأن من شئونه إفراط أو تفريط.
والإضافة في قوله (رُوحَنا) للتشريف والتكريم ، وسمى جبريل ـ عليهالسلام ـ روحا لمشابهة الروح الحقيقية في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب ، والروح تحيا به الأجسام.
وإنما تمثل لها جبريل ـ عليهالسلام ـ في صورة بشر سوى ، لتستأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته ، ولو بدا لها في صورته التي خلقه الله ـ تعالى ـ عليها. لنفرت منه ، ولم تستطع مكالمته.
وقوله : (بَشَراً سَوِيًّا) حالان من ضمير الفاعل في قوله (فَتَمَثَّلَ لَها).
ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما دار بين مريم وبين جبريل من حوار ونقاش فقال : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا).
أى : قالت لجبريل ـ عليهالسلام ـ الذي تمثل لها في صورة بشر سوى : إنى أعوذ وألتجئ إلى الرحمن منك ، إن كنت ممن يتقى الله ويخشاه.
وخصت الرحمن بالذكر ، لتثير مشاعر التقوى في نفسه ، إذ من شأن الإنسان التقى أن ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، وأن يرجع عن كل سوء يخطر بباله.
وجواب هذا الشرط محذوف ، أى إن كنت تقيا ، فابتعد عنى واتركني في خلوتي لأتفرغ لعبادة الله ـ تعالى ـ.
وبهذا القول الذي حكاه القرآن عن مريم. تكون قد جمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويف من تخاطبه وترهيبه من عذاب الله. إن سولت له نفسه إرادتها بسوء. كما أن قولها هذا ، يدل على أنها قد بلغت أسمى درجات العفة والطهر والبعد عن الريبة ، فهي تقول له هذا القول ، وهي تراه بشرا سويا ، وفي مكان بمعزل عن الناس ...
وهنا يجيبها جبريل ـ كما حكى القرآن عنه ـ بقوله : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).