والمعنى : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام ، وأرشدناه إليه ، لكي يبنيه بأمرنا ، ليكون مثابة للناس وأمنا.
قال بعض العلماء : والمفسرون يقولون بوأه له ، وأراه إياه ، بسبب ريح تسمى الخجوج ، كنست ما فوق الأساس : حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه ... وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم.
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله.
وظاهر قوله ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه ـ أيضا ـ قوله هنا (مَكانَ الْبَيْتِ) لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا (١).
و «أن» في قوله ـ تعالى ـ : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) مفسرة ، والتفسير ـ كما يقول الآلوسى ـ باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة ، فكأنه قيل : أمرنا إبراهيم بالعبادة ، وذلك فيه معنى القول دون حروفه ، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ.
والمعنى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ وقت أن هيأنا لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ مكان بيتنا الحرام ، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا ، وبإخلاص العبادة لنا ، كما أوصيناه ـ أيضا ـ بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات ، وأن يجعله مهيأ للطائفين به ، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة.
قال الشوكانى : والمراد بالقائمين في قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) المصلون ..
وذكر (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) بعده ، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة ، لأنهما لا يشرعان إلا في البيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه (٢).
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام ، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب مالا يرضى الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ، يَأْتُوكَ رِجالاً. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
__________________
(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٦٢.
(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٤٤٨.