أى : جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوي تحت سقفه من كان مقيما في جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادي أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة.
فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) تهديد لكل من يحاول ارتكاب شيء نهى الله عنه في هذا المسجد الحرام.
والإلحاد الميل. يقال : ألحد فلان في دين الله ، أى : مال وحاد عنه.
و «من» شرطية وجوابها «نذقه» ومفعول «يرد» محذوف لقصد التعميم. أى : ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله (بِإِلْحادٍ) على أن الباء زائدة.
أى : ومن يرد في هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى : ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب ظلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه.
وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من ينوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح.
ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش.
ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب : القول الذي ذكرناه من أن المراد بالظلم في هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) ولم يخصص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له (١).
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ...).
وبوأنا من التبوؤ بمعنى النزول في المكان. يقال : بوأته منزلا أى : أنزلته فيه ، وهيأته له ، ومكنته منه.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ١٧ ص ١٠٥.