إذا قرأ شيئا من الآيات ، ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ، ليجادلوه بالباطل ، ويردوا ما جاء به ، كما قال ـ تعالى ـ (... وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ...) (١). وقال ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ..) (٢).
وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلىاللهعليهوسلم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) : إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله. وكقولهم عند سماع قراءته لقوله ـ تعالى ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ. حَصَبُ جَهَنَّمَ ..) (٣) إن عيسى قد عبد من دون الله ، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله. (٤).
والآية الكريمة (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) على هذا التفسير ـ أيضا ـ واضحة المعنى ، إذ المراد بما يلقيه الشيطان في قراءة الرسول أو النبي ، تلك الشبه والأباطيل التي يلقيها في عقول الضالين ، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بيان لسنته ـ سبحانه ـ التي لا تتخلف في إحقاق الحق. وإبطال الباطل.
وقوله (فَيَنْسَخُ) من النسخ بمعنى الإزالة. يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته.
أى : فيزيل ـ سبحانه ـ بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان في القلوب التي شاء الله ـ تعالى ـ لها الإيمان والثبات على الحق ثم يحكم ـ سبحانه ـ آياته بأن يجعلها متقنة ، لا تقبل الرد ، ولا تحتمل الشك في كونها من عنده ـ عزوجل ـ والله عليم بجميع شئون خلقه ، حكيم في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الحكمة في إلقاء الشيطان لشبهه وضلالته هي امتحان الناس فقال : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...).
أى : فعل ما فعل ـ سبحانه ـ ليجعل ما يلقيه الشيطان من تلك الشبه في القلوب فتنة واختبارا وامتحانا ، للذين في قلوبهم مرض ، أى : شك وارتياب ، وهم المنافقون ، وللذين قست قلوبهم ، وهم الكافرون المجاهرون بالجحود والعناد.
فقوله ـ تعالى ـ : (لِيَجْعَلَ ..) متعلق ب (أَلْقَى) أى : ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ليجعل الله ـ تعالى ـ ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض.
__________________
(١) سورة الأنعام الآية ١٢١.
(٢) سورة الأنعام الآية ١١٢.
(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٨.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٣.