ومعنى كونه فتنة لهم : أنه سبب لتماديهم في الضلال ، وفي إصرارهم على الفسوق والعصيان.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الفريقين فقال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) ، وهم من في قلوبهم مرض ، ومن قست قلوبهم (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أى لفي خلاف للحق شديد. بسبب نفاقهم وكفرهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ حكمة أخرى لما فعله الشيطان من إلقاء الشبه والوساوس في القلوب فقال :
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ).
والضمير في (أَنَّهُ) يعود إلى ما جاء به الرسل والأنبياء من عند ربهم.
أى : وفعل ما فعل ـ سبحانه ـ أيضا ، ليعلم العلماء من عباده ، الذين حبب ـ سبحانه ـ إليهم الإيمان ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أن ما جاء به الرسل والأنبياء هو الحق الثابت من ربك ، فيزدادوا إيمانا به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أى : فتخضع وتسكن وتطمئن إليه نفوسهم.
و (وَإِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) به وصدقوا أنبياءه ورسله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يوصلهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
هذا ، وقد أبطل العلماء ـ قديما وحديثا ـ قصة الغرانيق ، ومن العلماء القدماء الذين تصدوا لهذا الإبطال الإمام الفخر الرازي ، فقد قال ما ملخصه : قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق ، واستدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فمن وجوه منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (١) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ..) (٣).
وأما السنة ، فقد قال الإمام البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ سورة «والنجم» وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق. وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
__________________
(١) سورة الحاقة الآيات ٤٤ ـ ٤٦.
(٢) سورة النجم الآيتان ٣ ، ٤.
(٣) سورة يونس الآية ١٥.