وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) بيان لعجز تلك الآلهة الباطلة من أمر آخر سوى الخلق.
أى : وفضلا عن عجز تلك الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة ، فإنها إذا اختطف الذباب منها شيئا من الأشياء لا تستطيع استرداده منه لعجزها عن ذلك.
قال القرطبي : وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته وضعفه ، ولاستقذاره وكثرته ، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره ، لا يقدر من عبدوه من دون الله ـ تعالى ـ على خلق مثله ، ودفع أذيته ، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين ، وأربابا مطاعين ، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان(١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على عجز الخاطف والمخطوف منه فقال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
قال الآلوسى : والطالب : عابد غير الله ـ تعالى ـ والمطلوب : الآلهة ، وكون عابد ذلك طالب لدعائه إياه ، واعتقاده نفعه ، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته ، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه.
وقيل : «الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الآلهة ، والمطلوب : الآلهة ، على معنى المطلوب منه ما يسلب ..» (٢).
وعلى أية حال فإن هذا التعليل يدل دلالة واضحة على عجز كل معبود باطل ، وأنه قد تساوى في عجزه مع أضعف مخلوقات الله وأحقرها.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن هؤلاء المشركين ، قد وضعوا الأمور في غير موضعها ، لجهلهم وغبائهم فقال : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...).
أى : ما عظموا الله حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته ، حيث تركوا عبادة الواحد القهار ، وعبدوا ما يعجز عن رد ما سلبه الذباب منه.
(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق كل شيء (عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب ، ولا يدافعه مدافع.
ثم بين ـ سبحانه ـ أن له مطلق التصرف في اختيار رسله فقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...).
أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي يختار من بين ملائكته رسلا يرسلهم لتبليغ وحيه إلى
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٩٧.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ٢٠٢.