وقوله ـ تعالى ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) بيان لرقة مشاعرهم ، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله ـ تعالى ـ.
فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله ـ تعالى ـ أو هي خبر لاسم الإشارة (أُولئِكَ) و (سُجَّداً وَبُكِيًّا) جمع ساجد وباك.
أى : أولئك الذين أنعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن ، المتضمنة لتمجيده وتعظيمه وحججه .. خروا على جباههم ساجدين وباكين. وسقطوا خاضعين خاشعين خوفا ورجاء ، وتعظيما وتمجيدا لله رب العالمين.
وجمع ـ سبحانه ـ بين السجود والبكاء بالنسبة لهم ، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم ، فهم أصحاب قلوب رقيقة ، وعواطف جياشة بالخوف من الله ـ تعالى ـ.
وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة ، منه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٢).
فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين ، أنهم يتأثرون تأثرا عظيما عند سماعهم لكلام الله ـ تعالى ـ ، تأثرا يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر جلودهم ، وتوجل قلوبهم ، وتلين نفوسهم.
قال ابن كثير ـ رحمهالله ـ : قوله ـ تعالى ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أى : إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وشكرا على ما هم فيه من نعم .. فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم ، واتباعا لمنوالهم وقرأ عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ هذه الآية فسجد وقال : هذا السجود فأين البكاء» (٣).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث من الذين جاءوا بعد هؤلاء المنعم عليهم فقال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ، أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
__________________
(١) سورة الإسراء الآيات من ١٠٧ ـ ١٠٩.
(٢) سورة المائدة الآية ٨٣.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١٢٧.