أظهرها ، وأقربها إلى سياق الآيات الكريمة ، فإن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) بيان للحكمة التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ هذا القرآن.
أى : ما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب من فرط تأسفك على كفر الكافرين ، وإنما أنزلناه من أجل أن يكون (تَذْكِرَةً) أى موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا ، ويخاف عذابنا ، ويرجو ثوابنا.
وما دام الأمر كذلك فامض في طريقك ، وبلغ رسالة ربك ، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين ، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.
وخص ـ سبحانه ـ التذكرة بمن يخشى دون غيره ، لأن الخائف من عذاب الله ـ تعالى ـ هو وحده الذي ينتفع بهدايات القرآن الكريم وآدابه وتوجيهاته وأحكامه ووعده ووعيده .. كما قال ـ تعالى ـ : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وكما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أى : الساعة.
ثم بين ـ سبحانه ـ مصدر القرآن الذي أنزله ـ تعالى ـ للسعادة لا للشقاء فقال : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى).
وقوله (تَنْزِيلاً) منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله (ما أَنْزَلْنا ..). أى : نزل هذا القرآن تنزيلا ممن خلق الأرض التي تعيشون عليها ، وممن خلق السموات العلى ، أى : المرتفعة. جمع العليا ككبرى وكبر ، وصغرى وصغر.
ثم مدح ـ سبحانه ـ ذاته بقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أى : الرحمن ـ عزوجل ـ استوى على عرش ملكه استواء يليق بذاته بلا كيف أو تشبيه ، أو تمثيل.
قال الإمام مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية من آيات القرآن الكريم.
قال بعض العلماء : «أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ إلى أنه صفة لله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه ـ تعالى ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه ـ تعالى ـ عما لا يليق به : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وأنه يجب الإيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه ـ تعالى ـ .. (١).
__________________
(١) تفسير صفوة البيان ج ١ ص ٢٩٣ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.