ثم أكد ـ سبحانه ـ شمول ملكه وقدرته فقال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من كائنات وموجودات ملكا وتصرفا وإحياء وإماتة ، وله (ما بَيْنَهُما) من مخلوقات لا يعلمها إلا هو وله (ما تَحْتَ الثَّرى) والثرى : هو التراب الندى. يقال : ثريت الأرض ـ كرضيت ـ إذا نديت ولانت بعد أن كانت جدباء يابسة.
والمقصود : وله ـ سبحانه ـ بجانب ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، ما وراء الثرى وهو تخوم الأرض وطبقاتها إلى نهايتها.
وخص ـ سبحانه ـ ما تحت الثرى بالذكر ، مع أنه داخل في قوله : (وَما فِي الْأَرْضِ) لزيادة التقرير ، ولتأكيد شمول ملكيته ـ سبحانه ـ لكل شيء.
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بيان لشمول علمه بكل شيء ، بعد بيان شمول قدرته.
والجهر بالقول : رفع الصوت به. والسر : ما حدث به الإنسان غيره بصورة خفية. وأخفى أفعل تفضيل وتنكيره للمبالغة في الخفاء.
والمعنى : وإن تجهر ـ أيها الرسول ـ بالقول في دعائك أو في مخاطبتك لربك ، فربك ـ عزوجل ـ غنى عن ذلك ، فإنه يعلم ما يحدث به الإنسان غيره سرا ، ويعلم أيضا ما هو أخفى من ذلك وهو ما يحدث به الإنسان نفسه دون أن يطلع عليه أحد من الخلق.
قال ـ تعالى ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).
وقال ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢).
ومنهم من يرى أن لفظ (أَخْفى) فعل ماض. فيكون المعنى : وإن تجهر بالقول في ذكر أو دعاء فلا تجهد نفسك بذلك فإنه ـ تعالى ـ يعلم السر الذي يكون بين اثنين ، ويعلم ما أخفاه ـ سبحانه ـ عن عباده من غيوب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما سيفعله الإنسان من أعمال في المستقبل ، قبل أن يعلم هذا الإنسان أنه سيفعلها.
قال الجمل : وقوله : (أَخْفى) جوزوا فيه وجهين : أحدهما : أنه أفعل تفضيل. أى : وأخفى من السر. والثاني : أنه فعل ماض. أى : وأخفى الله من عباده غيبه ، كقوله :
__________________
(١) سورة الملك الآيتان ١٣ ، ١٤.
(٢) سورة ق الآية ١٦.