كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال ، وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود ، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء ، ومن في (مِنْ ذِكْرٍ) مزيدة لتأكيد العموم ، و «من» في «من ربهم» لابتداء الغاية ، والاستثناء مفرغ من أعمّ العامّ محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم ، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض. وقيل : إن الإعراض بمعنى التكذيب ، لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذّبه ، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم ، على وجه التصريح ، والأوّل أولى ، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه. ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشدّ منه ، وهو التصريح بالتكذيب ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشدّ منه ، وهو الاستهزاء كما يدلّ عليه قوله : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا ، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ولم يقل ما كانوا عنه معرضين ، أو ما كانوا به يكذّبون ، لأن الاستهزاء أشدّ منهما ومستلزم لهما ، وفي هذا وعيد شديد ، وقد مرّ تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته من الأمور الحسية ، التي يحصل بها للمتأمل فيها ، والناظر إليها ، والمستدلّ بها أعظم دليل ، وأوضح برهان ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الهمزة للتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، فنبه سبحانه على عظمته وقدرته ، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد ، والمراد بالزوج هنا الصنف. وقال الفراء : هو اللون. وقال الزجاج : معنى زوج : نوع ، وكريم : محمود ، والمعنى : من كل زوج نافع ، لا يقدر على إنباته إلا ربّ العالمين ، والكريم في الأصل : الحسن الشريف ، يقال : نخلة كريمة : أي كثيرة الثمرة ، ورجل كريم : شريف فاضل ، وكتاب كريم : إذا كان مرضيا في معانيه ، والنبات الكريم : هو المرضي في منافعه. قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة ، فهو كريم ، ومن صار منهم إلى النار ، فهو لئيم ، والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى المذكور قبلة ، أي : إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة ، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعته. ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمرّ على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا. وقال سيبويه : إن (كانَ) هنا صلة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي : الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم ، مع كونه كثير الرحمة ، ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ، أو المعنى : أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه ، وجملة (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) إلخ مستأنفة ، مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء ، والعامل في الظرف محذوف تقديره : واتل إذ نادى أو اذكر ، والنداء : الدعاء ، و (أَنِ) في قوله : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يجوز أن تكون مفسرة ، وأن تكون مصدرية ، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم ، وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم ، كاستبعاد بني إسرائيل ، وذبح أبنائهم ،