هذا العذاب الذي أصابهم بقوله : (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لما فيه من الشدّة عليهم التي لا يقادر قدرها ، وقد تقدّم تفسير قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في هذه السورة مستوفى فلا نعيده ، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد ، والزجر ، والتقرير ، والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ، ويعرف أساليبه.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) قال : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال ، وأدبار النساء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) قال : هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد «ليكة» قال : هي الأيكة. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قال : كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم شعيب. لأنه لم يكن من جنسهم (أَلا تَتَّقُونَ) كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين ، لا تعتبرون من هلاك مدين ، وقد أهلكوا فيما يأتون ، وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين ، فقال لهم شعيب (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ) على ما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ) في العاجل من أموالكم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) يعني القرون الأولين الذي أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) يعني من المخلوقين (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) يعني : قطعا من السماء (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) أرسل الله إليهم سموما من جهنم ، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر ، فحميت بيوتهم ، وغلت مياههم في الآبار ، والعيون ، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين ، والسموم معهم ، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم ، فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم ، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم ، حتى تساقطت لحوم أرجلهم ، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها ، حتى إذا كانوا جميعا أطبقت عليهم ، فهلكوا ، ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : (الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الخلق الأوّلين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا أنه سئل عن قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال : بعث الله عليهم حرّا شديدا فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم أجوافها ، فأخذ بأنفسهم ، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة ، فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردا ولذة ، فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها ، أسقط الله عليهم نارا ، فذلك عذاب يوم الظلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال : من حدّثك من العلماء عذاب يوم الظلة فكذبه. أقول : فما نقول له رضي الله عنه فيما حدّثنا به من ذلك مما نقلناه عنه هاهنا؟ ويمكن أن يقال إنه لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلىاللهعليهوسلم كان مختصا بمعرفة هذا الحديث دون غيره