لم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله ، لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا ، لأنه كان منهم ، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف ، وقد تقدم تفسير قوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) إلى قوله تعالى : (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) في هذه السورة. قوله : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي أتمّوا الكيل لمن أراده وعامل به ، ولا تكونوا من المخسرين : الناقصين للكيل والوزن ، يقال أخسرت الكيل والوزن : أي نقصته ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (١) ثم زاد سبحانه في البيان فقال : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي : أعطوا الحقّ بالميزان السويّ ، وقد مرّ بيان تفسير هذا في سورة سبحان ، وقد قرئ «بالقسطاس» مضموما ومكسورا (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس : النقص ، يقال بخسه حقه : إذا نقصه ، أي : لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، وقد تقدّم تفسيره في سورة هود ، وتقدّم أيضا تفسير (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فيها ، وفي غيرها. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام ، وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء ، والجبلة : الخليقة ، قاله مجاهد وغيره ، يعني : الأمم المتقدّمة ، يقال : جبل فلان على كذا ، أي : خلق. قال النحاس : الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأوّلين ، وبضمهما مع تشديد اللام فيهما ، وبضم الجيم وسكون الباء ، وضمه وفتحها ، قال الهروي : الجبلة والجبلة والجبل والجبل لغات ، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ، ومنه قوله تعالى : (جِبِلًّا كَثِيراً) أي : خلقا كثيرا ، ومن ذلك قول الشاعر :
والموت أعظم حادث |
|
فيما يمرّ على الجبلّة |
(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) قد تقدّم تفسيره مستوفى في هذه السورة (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) إن : هي المخففة من الثقيلة ، عملت في ضمير شأن مقدّر ، واللام : هي الفارقة ، أي : فيما تدّعيه علينا من الرسالة ، وقيل : هي النافية ، واللام : بمعنى إلا ، أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، والأوّل : أولى (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا ، فقالوا له هذا القول عنتا واستبعادا وتعجيزا. والكسف : القطعة. قال أبو عبيدة : الكسف : جمع كسفة ، مثل سدر وسدرة. قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كسف ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي ، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء ، وفي هذا تهديد شديد (فَكَذَّبُوهُ) فاستمروا على تكذيبه وأصرّوا على ذلك (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) والظلة : السحاب ، أقامها الله فوق رؤسهم ، فأمطرت عليهم نارا فهلكوا ، وقد أصابهم الله بما اقترحوا ، لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر ، وإن أرادوا بها القطعة من السماء ، فقد نزل عليهم العذاب من جهتها ، وأضاف العذاب إلى يوم الظلة ، لا إلى الظلة تنبيها على أن لهم في ذلك اليوم عذابا غير عذاب الظلة ، كذا قيل. ثم وصف سبحانه
__________________
(١). المطففين : ٣.