لما ذكر سبحانه أن المشركين في شكّ من البعث ، وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم ، وهي مجرّد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) والعامل في إذا محذوف ، دلّ عليه مخرجون ، تقديره : أنبعث ، أو نخرج إذا كنا؟ وإنما لم يعمل فيه مخرجون ، لتوسط همزة الاستفهام ، وإنّ ولام الابتداء بينهما. قرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين ، إلا أنهما حققا الهمزتين ، وقرأ نافع بهمزة ، وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب «أإذا» بهمزتين «وإننا» بنونين على الخبر ، ورجح أبو عبيدة قراءة نافع ، وردّ على من جمع بين استفهامين ؛ ومعنى الآية : أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء ، بعد أن قد صاروا ترابا ، ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث فقالوا : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) يعنون البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل وعد محمد لنا ، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار ، مصدّرة بالقسم لزيادة التقرير (إِنْ هذا) الوعد بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة ، وقد تقدّم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون ، ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث ، فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة ، المكذبة للأنبياء ، وما عوقبوا به ، وكيف كانت عاقبتهم فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث ، ومعنى النظر : هو مشاهدة آثارهم بالبصر ، فإن في المشاهدة زيادة اعتبار. وقيل المعنى : فانظروا بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم (١) ، والأوّل أولى لأمرهم بالسير في الأرض (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لما وقع منهم من الإصرار على الكفر (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) الضيق : الحرج ، يقال : ضاق الشيء ضيقا بالفتح ، وضيقا بالكسر قرئ بهما ، وهما لغتان. قال ابن السكيت : يقال في صدر فلان ضيق وضيق وهو ما تضيق عنه الصدور. وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخرة سورة النحل (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي : بالعذاب الذي تعدنا به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ذلك (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) يقال ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه ، وردفه إذا أتبعه وجاء في أثره ، والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم ، فتكون اللام زائدة للتأكيد ، أو بمعنى : اقترب لكم ، ودنا لكم ، فتكون غير زائدة. قال ابن شجرة : معنى ردف لكم تبعكم ، قال ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ، ومنه قول أبي ذؤيب :
عاد السّواد بياضا في مفارقه |
|
لا مرحبا ببياض الشّيب إذ ردفا |
قال الجوهري : وأردفه لغة في ردفه ، مثل تبعه وأتبعه بمعنى. قال خزيمة بن مالك بن نهد :
إذا الجوزاء أردفت الثّريا |
|
ظننت بآل فاطمة الظنونا |
__________________
(١). هذه العبارة وما قبلها تفسير لقوله تعالى : «المكذبين» التي وردت في الأصل بدلا من قوله تعالى : (الْمُجْرِمِينَ) وهو خطأ والصحيح ما أثبت.