قال الفراء : ردف لكم : دنا لكم ولهذا قيل لكم. وقرأ الأعرج «ردف لكم» بفتح الدال وهي لغة ، والكسر أشهر. وقرأ ابن عباس «أزف لكم» وارتفاع (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي : على أنه فاعل ردف ، والمراد : بعض الذي تستعجلونه من العذاب ، أي : عسى أن يكون قد قرب ، ودنا ، وأزف بعض ذلك ، قيل : هو عذابهم بالقتل يوم بدر ، وقيل : هو عذاب القبر. ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) في تأخير العقوبة ، والأولى أن تحمل الآية على العموم ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه ، ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم ، فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي : ما تخفيه. قرأ الجمهور «تكن» بضم التاء من أكنّ. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع وحميد بفتح التاء وضم الكاف ، يقال كننته : بمعنى سترته ، وخفيت أثره (وَما يُعْلِنُونَ) وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قال المفسرون : ما من شيء غائب ، وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض ؛ إلا في كتاب مبين ، إلا هو مبين في اللوح المحفوظ ، وغائبة : هي من الصفات الغالبة ، والتاء للمبالغة. قال الحسن : الغائبة هنا : هي القيامة. وقال مقاتل : علم ما يستعجلون من العذاب هو مبين عند الله ، وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة : الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه ، وغيبه عنهم مبين في أمّ الكتاب ، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك ، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب ، فإنه موقت بوقت ، ومؤجل بأجل علمه عند الله ، فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وذلك لأن أهل الكتاب تفرّقوا فرقا ، وتحزّبوا أحزابا ، يطعن بعضهم على بعض ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، فنزل القرآن مبينا لما اختلفوا فيه من الحق ، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ، ويدفع تفرّقهم (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : وإنّ القرآن لهدى ورحمة لمن آمن بالله ، وتابع رسوله ، وخصّ المؤمنين لأنهم المنتفعون به ، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) أي : يقضي بين المختلفين من بين إسرائيل بما يحكم به من الحق ، فيجازي المحق ، ويعاقب المبطل ، وقيل : يقضي بينهم في الدنيا ، فيظهر ما حرّفوه. قرأ الجمهور بحكمه بضم الحاء وسكون الكاف. وقرأ جناح بكسرها ؛ وفتح الكاف ، جمع حكمة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) العزيز الذي لا يغالب ، والعليم بما يحكم به ، أو الكثير العلم ، ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة ، فقال : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) والفاء لترتيب الأمر على ما تقدّم ذكره ، والمعنى : فوّض إليه أمرك ، واعتمد عليه فإنه ناصرك. ثم علل ذلك بعلتين : الأولى قوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي : الظاهر ، وقيل : المظهر. والعلة الثانية قوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع ، أو كحال الصم الذين لا يسمعون ، ولا يفهمون ، ولا يهتدون صار ذلك سببا قويا في عدم الاعتداد بهم ، شبه الكفار بالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل ، وبالصمّ الذين لا يسمعون المواعظ ، ولا يجيبون الدعاء إلى الله. ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه ، وتأكيده فقال : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي : إذا أعرضوا عن الحق إعراضا تاما ، فإن الأصمّ لا