عباده الذين يحمدون في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة ، كما في قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (١) وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٢) وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) إلى قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) وقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤) فهو سبحانه المحمود في الآخرة ، كما أنه المحمود في الدنيا وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمر الدارين (الْخَبِيرُ) بأمر خلقه فيهما ، قيل : والفرق بين الحمدين أن الحمد في الدنيا عبادة ، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج ، لأنه قد انقطع التكليف فيها. ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به من علمه من أمور السموات والأرض فقال : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : ما يدخل فيها من مطر ، أو كنز ، أو دفين (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ، ونبات ، وحيوان (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والصواعق ، والبركات ، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة ، وأعمال العباد. قرأ الجمهور «ينزل» بفتح الياء وتخفيف الزاي مسندا إلى «ما» وقرأ عليّ بن أبي طالب ، والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندا إلى الله سبحانه : (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بعباده (الْغَفُورُ) لذنوبهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق ، أو كفار مكة على الخصوص ، ومعنى لا تأتينا الساعة : أنها لا تأتي بحال من الأحوال ، إنكارا منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد ، فردّ الله عليهم وأمر رسوله أن يقول لهم : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وهذا القسم لتأكيد الإتيان ، قرأ الجمهور «لتأتينكم» بالفوقية : أي الساعة ، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت. قال طلق : سمعت أشياخنا يقرءون بالياء ، يعني : التحتية على المعنى ، كأنه قال ليأتينكم البعث أو أمره كما قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) قرأ نافع وابن عامر «عالم الغيب» بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره لا يعزب ، أو على تقدير مبتدأ ، وقرأ عاصم ، وابن كثير ، وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربّي ، وقرأ حمزة ، والكسائي علام بالجرّ مع صيغة المبالغة ، ومعنى (لا يَعْزُبُ) لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد (عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) المثقال (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ. والمعنى : إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه فهو مؤكد لنفي العزوب. قرأ الجمهور : (يَعْزُبُ) بضم الزاي ، وقرأ يحيى بن وثّاب بكسرها. قال الفراء : والكسر أحبّ إليّ ، وهما لغتان ، يقال عزب يعزب بالضم ، ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور «ولا أصغر ولا أكبر» بالرفع على الابتداء ، والخبر إلا في كتاب ، أو على العطف على مثقال ، وقرأ قتادة والأعمش بنصبهما عطفا على ذرّة ، أو على أن لا : هي : لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح ، واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) للتعليل لقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي : إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب ، والكافرين بالعقاب ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الموصول ، أي : أولئك الذي عملوا الصالحات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)
__________________
(١). الزمر : ٧٤.
(٢). الأعراف : ٤٣.
(٣). فاطر : ٣٤ و ٣٥.
(٤). يونس : ١٠.