(بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) الهدى ، قالوا هذا منكرين لما ادّعوه عليهم من الصدّ لهم ، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك ، ثم بينوا أنهم الصادّون لأنفسهم ، الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم فقالوا : (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي : مصرّين على الكفر ، كثيري الإجرام ، عظيمي الآثام (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ردّا لما أجابوا به عليهم ، ودفعا لما نسبوه إليهم من صدّهم لأنفسهم (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة ، يقال : مكر به إذا خدعه واحتال عليه. والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار ، فحذف المضاف إليه ، وأقيم الظرف مقامه اتساعا. وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس : المعنى والله أعلم ، بل مكركم في الليل والنهار ، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار ، ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرّر في علم المعاني. قال المبرّد كما تقول العرب : نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد قول جرير :
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى |
|
ونمت وما ليل المطيّ بنائم |
وأنشد سيبويه :
فنام ليلي وتجلّى همّي
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر برفع «مكر» منوّنا ، ونصب الليل والنهار ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار. وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافا بمعنى الكرور ، من كرّ يكرّ إذا جاء وذهب ، وارتفاع مكر على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، أي : مكر الليل والنهار صدّنا ، أو على أنه فاعل لفعل محذوف : أي صدّنا مكر الليل والنهار ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدّم عن الأخفش. وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير ، ولكنه نصب مكر على المصدرية ، أي : بل تكرّرن الإغواء مكرّا دائما لا تفترون عنه ، وانتصاب (إِذْ تَأْمُرُونَنا) على أنه ظرف للمكر ، أي : بل مكركم بنا وقت أمركم لنا (أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي : أشباها وأمثالا. قال المبرد يقال ندّ فلان فلان : أي مثله وأنشد :
أتيما تجعلون إليّ ندّا |
|
وما تيم لذي حسب نديد |
والضمير في قوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) راجع إلى الفريقين ، أي : أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم ، أو أخفاها كلّ منهم عن الآخر مخافة الشماتة. وقيل : المراد بأسرّوا هنا أظهروا لأنه من الأضداد يكون تارة بمعنى الإخفاء ، وتارة بمعنى الإظهار ، ومنه قول امرئ القيس :
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر |
|
عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي |
وقيل معنى : أسروا الندامة : تبينت الندامة في أسرة وجوههم (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الأغلال جمع غلّ ، يقال في رقبته غلّ من حديد ، أي : جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء