الجمهور (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) بكسر الهمزة ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي : أي لأنهم أو بأنهم ، وقيل : الإشارة بقوله (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) إلى قول أبي جهل يوم بدر (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (١) ثم اضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي : منقادون لعجزهم عن الحيلة. قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله. وقال الأخفش : ملقون بأيديهم ، يقال استسلم للشيء : إذا انقاد له وخضع (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي : أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون. قيل : هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة. وقال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين. وقال قتادة : هو قول الإنس للجنّ ، والأوّل أولى لقوله : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي : كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين : أي من جهة الحقّ والدين والطاعة وتصدّونا عنها. قال الزجاج : كنتم تأتوننا من قبل الدين ، فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به ، واليمين عبارة عن الحق ، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) (٢) قال الواحدي : قال أهل المعاني : إن الرّؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم ؛ فمعنى (تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها. قال : والمفسرون على القول الأوّل. وقيل المعنى : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرّونا بذلك عن جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل اليمين بمعنى القوّة ، أي : تمنعوننا بقوّة وغلبة وقهر كما في قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٣) أي : بالقوّة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وكذلك جملة : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر ؛ والمعنى : أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين : كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان. والمعنى : أنكم لم تكونوا مؤمنين قطّ حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من الكفر (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي : متجاوزين الحدّ في الكفر والضلال ، وقوله : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) من قول المتبوعين ، أي : وجب علينا وعليكم ، ولزمنا قول ربنا ، يعنون قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤) إنا لذائقو العذاب : أي إنا جميعا لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد. قال الزجاج : أي إن المضلّ والضّال في النار (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي أضللناكم عن الهدى ، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغيّ ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) فلا عتب علينا في تعرّضنا لإغوائكم ، لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية ؛ ومعنى الآية : أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، فأقرّوا هاهنا بأنهم تسببوا لإغوائهم ، لكن لا بطريق القهر والغلبة ، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم ، فقالوا : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع والمتبوعين بقوله : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية (إِنَّا
__________________
(١). القمر : ٤٤.
(٢). الأعراف : ١٧.
(٣). الصافات : ٩٣.
(٤). ص : ٨٥.