(وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فكانوا مثل ما كانوا من قبل ابتلائه ، وانتصاب قوله : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) على أنه مفعول لأجله ، أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر ، وقد تقدّم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) معطوف على اركض ، أو على وهبنا ؛ أو التقدير وقلنا له : (خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) والضغث : عثكال النخل بشماريخه ، وقيل : هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها ، وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان ، وأصل المادّة تدلّ على جمع المختلطات. قال الواحدي : الضغث ملء الكفّ من الشجر والحشيش والشماريخ (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي : اضرب بذلك الضغث ، ولا تحنث في يمينك ، والحنث : الإثم ، ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة.
واختلف في سبب ذلك ، فقال سعيد بن المسيب إنه جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز ، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. وقال يحيى بن سلام وغيره : إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقرّبا إليه ، فإنه إذا فعل ذلك برىء ، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل : باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها. وقيل : جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاصّ بأيوب أو عامّ للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك قال الشافعي : إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي. وقال عطاء : هو خاصّ بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) أي : على البلاء الذي ابتليناه به ، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي : أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قرأ الجمهور (عِبادَنا) بالجمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير «عبدنا» بالإفراد. فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان ، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان ، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم. وقد يقال : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه. وقيل : إن إبراهيم وما بعده بدل ، أو : النصب بإضمار أعني ، وعطف البيان أظهر ، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد ، وأبو حاتم (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الأيدي ، جمع اليد التي بمعنى القوّة والقدرة. قال قتادة : أعطوا قوّة في العبادة ونصرا في الدين. قال الواحدي : وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والمفسرون. قال النحاس : أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم. وأما الأيدي فمختلف في تأويلها ؛ فأهل التفسير يقولون : إنها القوّة في الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة ، أي : هم أصحاب النعم ، أي : الذين أنعم الله عزوجل عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم على الناس والإحسان