فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه ، فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) قال الحسن : هو السائل تعالى ، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه ، وقيل : إنه سبحانه يأمر مناديا ينادي بذلك ، فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل : إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار ، وقيل : هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوى المبطلين ، كما في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١) وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو الله سبحانه ، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم ، أي : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشرّ لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : سريع حساب لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة. ثم أمر الله سبحانه رسوله بإنذار عباده فقال : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : يوم القيامة سميت بذلك لقربها ، يقال أزف فلان : أي قرب ، يأزف أزفا ، ومنه قول النابغة :
أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا |
|
لمّا تزل بركابنا وكأن قد |
ومنه قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٢) أي : قربت الساعة ، وقيل : إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت ، والأوّل أولى. قال الزجاج : وقيل : لها آزفة لأنها قريبة ، وإن استبعد الناس أمرها ، وما هو كائن فهو قريب (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (٣) (كاظِمِينَ) مغمومين ، مكروبين ، ممتلئين غما. قال الزجاج : المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال قتادة : وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة ، فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. وقيل : هو إخبار عن نهاية الجزع ، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب ، لأن المعنى : إذ قلوب الناس لدى حناجرهم ، فيكون حالا منهم. وقيل : حالا من القلوب ، وجمع الحال منها جمع العقلاء لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء ، فجمعت جمعه. ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي : قريب ينفعهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) في شفاعته لهم ، ومحل يطاع الجر على أنه صفة لشفيع. ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه ، والجملة خبر آخر لقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) قال المؤرج : فيه تقديم وتأخير ، أي : يعلم الأعين الخائنة. وقال قتادة : خائنة الأعين : الهمز بالعين فيما لا يحب الله. وقال الضحاك : هو قول الإنسان ما رأيت ، وقد رأى ، ورأيت وما رأى. وقال سفيان : هي النظرة بعد النظرة. والأول أولى ، وبه قال مجاهد (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر وتسرّه من معاصي الله (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشرّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
__________________
(١). الانفطار : ١٧ ـ ١٩.
(٢). النجم : ٥٧.
(٣). الأحزاب : ١٠.