المعنى : أوحى فيها ما أراده وما أمر به ، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى) (١) وقوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٢) أي : أمرتهم.
وقد استشكل الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣) فإن ما في هذه الآية من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض ، وظاهره يخالف قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فقيل إن (ثُمَ) في (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ليست للتراخي الزماني ؛ بل للتراخي الرتبي ، فيندفع الإشكال من أصله ، وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدّم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرّد خلقها فهي متقدّمة خلقا متأخرة دحوا وهذا ظاهر ، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي : بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح ، (وَ) انتصاب (حِفْظاً) على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : وحفظناها حفظا ، أو على أنه مفعول لأجله على تقدير : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا ، والأوّل أولى. قال أبو حيان : في الوجه الثاني هو تكلف ، وعدول عن السهل البين ، والمراد بالحفظ : حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي : البليغ القدرة الكثير العلم (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أي : فقل لهم يا محمد أنذرتكم خوّفتكم (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي : عذابا مثل عذابهم ، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كلّ شيء. قال المبرد : الصاعقة المرّة المهلكة لأيّ شيء كان. قرأ الجمهور (صاعِقَةً) في الموضعين بالألف ، وقرأ ابن الزبير ، والنخعي ، والسلمي ، وابن محيصن (صعقة) في الموضعين ، وقد تقدّم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة ، وقوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) ظرف لأنذرتكم ، أو لصاعقة ، لأنها بمعنى العذاب ، أي : أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل ، أو حال من صاعقة عاد. وهذا أولى من الوجهين الأولين ، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل ؛ فلا يصح أن يكون ظرفا له ، وكذلك الصاعقة لا يصح أن يكون الوقت ظرفا لها ، وقوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بجاءتهم ، أي : جاءتهم من جميع جوانبهم ، وقيل : المعنى جاءتهم الرسل المتقدّمون ، والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم ، فكأن الرسل قد جاءوهم ، وخاطبوهم بقولهم : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية ، ويجوز أن تكون التفسيرية أو المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف. ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل فقال : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : لأرسلهم إلينا ، ولم يرسل إلينا بشرا من جنسنا ، ثم صرّحوا بالكفر ولم يتلعثموا ، فقالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي : كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا ، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، فكيف اختصكم برسالته دوننا ، وقد تقدّم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع.
__________________
(١). الزلزلة : ٥.
(٢). المائدة : ١١١.
(٣). النازعات : ٣٠.