خير الدنيا بما فيه من الخير ، واستحقّ خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه وأثبته لها ، وهو اعتقاد باطل ، وظنّ فاسد (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي : لنخبرنهم بها يوم القيامة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد بسبب ذنوبهم ، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي : على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده (أَعْرَضَ) عن الشكر (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي ترفع عن الانقياد للحق ، وتكبر وتجبر ، والجانب هنا مجاز عن النفس ، ويقال نأيت وتناءيت : أي : بعدت وتباعدت ، والمنتأى : الموضع البعيد. ومنه قول النابغة :
فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي |
|
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع |
وقرأ يزيد بن القعقاع «وناء بجانبه» بالألف قبل الهمزة (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : البلاء والجهد ، والفقر ، والمرض (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : كثير ، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازا ، يقال : أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء : إذا أكثر ، والمعنى : أنه إذا مسه الشرّ تضرّع إلى الله ، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به ، واستكثر من ذلك ، فذكره في الشدّة ونسيه في الرخاء واستغاث به عند نزول النقمة ، وتركه عند حصول النعمة ، وهذا صنيع الكافرين ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين. ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ، ومحاجتهم فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : القرآن (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) أي : كذبتم به ، ولم تقبلوه ، ولا عملتم بما فيه (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي : لا أحد أضلّ منكم لفرط شقاوتكم ، وشدّة عداوتكم ، والأصل : أيّ شيء أضلّ منكم ، فوضع (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة ، وأنها السبب الأعظم في ضلالهم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) أي : سنريهم دلالات صدق القرآن ، وعلامات كونه من عند الله في الآفاق (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآفاق : جمع أفق : وهو الناحية. والأفق بضم الهمزة والفاء ، كذا قال أهل اللغة. ونقل الراغب أنه يقال أفق بفتحهما ، والمعنى : سنريهم آياتنا في النواحي وفي أنفسهم. قال ابن زيد : في الآفاق آيات السماء ، وفي أنفسهم حوادث الأرض. وقال مجاهد : في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسوله وللخلفاء من بعده ونصّار دينه في آفاق الدنيا شرقا وغربا ، ومن الظهور على الجبابرة والأكاسرة ، وفي أنفسهم : فتح مكة ، ورجح هذا ابن جرير. وقال قتادة والضحاك : في الآفاق : وقائع الله في الأمم ، وفي أنفسهم في يوم بدر. وقال عطاء : في الآفاق : يعني أقطار السموات والأرض ، من الشمس والقمر ، والنجوم والليل ، والنهار ، والرياح ، والأمطار ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والنبات ، والأشجار ، والجبال ، والبحار ، وغير ذلك ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، كما في قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١). (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) الضمير راجع إلى القرآن ، وقيل : إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : إلى ما يريهم الله ، ويفعل من ذلك ، وقيل : إلى محمد صلىاللهعليهوسلم أنه الرسول الحق من عند الله ، والأوّل أولى (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الجملة مسوقة لتوبيخهم وتقريعهم
__________________
(١). الذاريات : ٢١.