حَكِيمٌ) رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ، ولا تناقض ، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم ، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها. قال الزجاج : أمّ الكتاب أصل الكتاب ، وأصل كلّ شيء : أمه ، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (١) وقال ابن جريج : المراد بقوله : (وَإِنَّهُ) أعمال الخلق من إيمان وكفر ، وطاعة ومعصية. قال قتادة : أخبر عن منزلته وشرفه وفضله ، أي : إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) يقال ضربت عنه وأضربت عنه : إذا تركته وأمسكت عنه ، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما ، وانتصاب صفحا : على المصدرية ، وقيل : على الحال ؛ على معنى : أفنضرب عنكم الذكر صافحين ، والصفح مصدر قولهم : صفحت عنه إذا أعرضت عنه ، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك ، والمراد بالذكر هنا القرآن ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. قال الكسائي : المعنى أفنضرب عنكم الذكر طيا ، فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدّي : أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم. وقال قتادة : المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وروي عنه أنه قال : المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به. وقيل الذكر : التذكير ، كأنه قال : أنترك تذكيركم (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ، قرأ نافع وحمزة والكسائي إن كنتم بكسر إن على أنها الشرطية ، والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها على التعليل ، أي : لأن كنتم قوما منهمكين في الإسراف مصرّين عليه ، واختار أبو عبيد قراءة الفتح. ثم سلى سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم هي الخبرية التي معناها التكثير ، والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كاستهزاء قومك بك (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : أهلكنا قوما أشدّ قوة من هؤلاء القوم ، وانتصاب بطشا : على التمييز ، أو الحال ، أي : باطشين (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة : عقوبتهم ، وقيل : صفتهم ، والمثل الوصف والخبر ، وفي هذا تهديد شديد ، لأنه يتضمن أن الأوّلين أهلكوا بتكذيب الرسل ، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي : لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية ؛ أقرّوا بأن الله خالقهنّ ولم ينكروا ، وذلك أسوأ لحالهم وأشدّ لعقوبتهم ، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله ، وجعلوه شريكا له ، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا ينفع ولا يضرّ من المخلوقات وهي : الأصنام ؛ فجعلوها شركاء لله. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم نعمته على عباده ، وكمال قدرته في مخلوقاته فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله ، ولو كان متصلا بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهادا ، والمهاد : الفراش والبساط ، وقد تقدّم بيانه ، قرأ الجمهور «مهادا» وقرأ الكوفيون (مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : طرقا تسلكونها إلى حيث تريدون ، وقيل : معايش تعيشون بها (لَعَلَّكُمْ
__________________
(١). البروج : ٢١ ـ ٢٢.