هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة ، أي : يلوذون لواذا. وقرأ زيد بن قطيب (لِواذاً) بفتح اللام. وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين ، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ، ينضم بعضهم إلى بعض استتارا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين ، لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة ، فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية ، ويستتر بعضهم ببعض ، وينضم إليه. وقيل اللواذ : الفرار من الجهاد وبه قال الحسن ، ومنه قول حسان :
وقريش تجول منّا لواذا |
|
لم تحافظ وخفّ منها الحلوم |
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : يخالفون أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بترك العمل بمقتضاه ، وعدّى فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّيا بنفسه ، لتضمينه معنى الإعراض أو الصدّ ، وقيل : الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة ، و (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) مفعول يحذر ، وفاعله : الموصول. والمعنى : فليحذر المخالفون عن أمر الله ، أو أمر رسوله ، أو أمرهما جميعا ، إصابة فتنة لهم (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : في الآخرة ، كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم ، هي في الدنيا ، وكلمة أو لمنع الخلوّ. قال القرطبي : احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية. ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الآية ، فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته ، والفتنة هنا : غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن ، وقيل : هي القتل ، وقيل : الزلازل ، وقيل : تسلط سلطان جائر عليهم ، وقيل : الطبع على قلوبهم. قال أبو عبيدة والأخفش : عن في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه : ليست بزائدة ، بل هي بمعنى بعد ، كقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١) أي : بعد أمر ربه ، والأولى : ما ذكرناه من التضمين (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من المخلوقات بأسرها ، فهي ملكه : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها ، فيجازيكم بحسب ذلك ، ويعلم هاهنا : بمعنى علم (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) معطوف على ما أنتم عليه ، أي : يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم ترجعون إليه فيجازيكم فيه بما عملتم ، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه ، لأن العلم بوقت وقوع الشيء ، يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي : يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر ، والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة : بئر بالمدينة ، قائدها أبو سفيان ، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد ، وجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخبر ، فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه المسلمون ، وأبطأ رجال من المنافقين ، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل ، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١). الكهف : ٥٠.