تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار ، قيل : معنى إذا رأتهم : إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد ، وقيل المعنى : إذا رأتهم خزنتها ، وقيل : إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ والزفير ، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم ، قيل : بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ : أن لها صوتا يدل على التغيظ على الكفار ، أو لغليانها صوتا يشبه صوت المغتاظ. والزفير : هو الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج : المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت ، أي : سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. وقال قطرب : أراد علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ، كما قال الشاعر : متقلدا سيفا ورمحا ، أي : وحاملا رمحا ، وقيل المعنى : سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين كما قال : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١) وفي واللام متقاربان ، تقول : افعل هذا في الله (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة وتناهي البلاء عليهم ، وانتصاب (مُقَرَّنِينَ) على الحال ، أي : إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين ، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع ، مصفّدين بالحديد ، وقيل : مكتفين ، وقيل : قرنوا مع الشياطين ، أي : قرن كل واحد منهم إلى شيطانه ، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم (دَعَوْا هُنالِكَ) أي : في ذلك المكان الضيق (ثُبُوراً) أي : هلاكا. قال الزجاج : وانتصابه على المصدرية ، أي : ثبرنا ثبورا ، وقيل : منتصب على أنه مفعول له ، والمعنى : أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما حلّ بهم من البلاء ، فأجيب عليهم بقوله : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي : فيقال لهم هذه المقالة ، والقائل لهم هم الملائكة ، أي : اتركوا دعاء ثبور واحد ، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم ، كذا قال الزجاج : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) والثبور : مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع ، ومثله : ضربته ضربا كثيرا ، وقعد قعودا طويلا ، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به ، لا بحسب كثرته في نفسه ، فإنه شيء واحد. والمعنى : لا تدعوا على أنفسكم بالثبور واحدا وادعوه أدعية كثيرة ، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه ، وقيل : هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك ، من غير أن يكون هناك فول ، وقيل : إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع ، والأولى : أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه. ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخا بالغا على لسان رسوله فقال : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) والإشارة بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة ، أي : أتلك السعير خير أم جنة الخلد ، وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه ، ومعنى (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) التي وعدها المتقون ، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلا ، لأن العرب قد تقول ذلك ، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون : السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة؟ وقيل : ليس هذا من باب التفضيل ، وإنما هو كقولك : عنده خير. قال النحاس : وهذا قول حسن كما قال :
__________________
(١). هود : ١٠٦.