الأصل أن بعد لكن اللام ، هنا ليست للتعدية بل للتعليل ، أي لا تمل خدك لأجل الناس.
قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).
قال ابن عرفة : إنما لم يقل : واقصد في مشيك وصوتك ؛ لأن المشي أقسام : مشي في غاية الضعف والبطء ، ومشي في غاية السرعة والاستعجال ، ومشي متوسط مقتصد ، فأمر بالتوسط فيه ، والصوت أحد طرفيه منتف ههنا ، وهو أضعفه وأخفى ، لأن المقصود منه الإسماع ، فلم يبق منه إلا القسم الثاني ، وهو أعلاه وأبلغه المتناول لأقصى غاية الإجهاد ، فأمره بالنقص من هذا والاتصاف بما دونه.
قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
ولم يقل : لصوت الحمار ؛ لأن ذلك خرج مخرج التقبيح ، وأصوات الحمير مجمعه أشد من صوت حمار واحد.
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ).
قال ابن عرفة : مثل هذا في القرآن كثير ، وإنما أتى بهذا البعض منكرا دون تعيين لوجهين :
إما قصد التستر عليه ، وإما قصد العموم التخويف ، حتى أن كل أحد من المخالفين يظن أن الآية تتناوله ، والمجادلة تتعدى باللام ونفي ، والمجادل لله بحق ، لأنه يجادل لإظهار دين الله ونصرته ، والمجادل في الله مبطل ، لأنه يجادل قادحا في دين الله لنصرة الإشراك بالله.
قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قال ابن عرفة : تقسما فيها أن المجادل في الشيء تارة يكون جداله بعلم استعمله واستنبطه من عقله ، وتارة يأتي بدليل استفادة من غيره ممن هو مثله ، كمن يستدل بدليل ذكره القاضي الباقلاني ، أو غيره ، وتارة يأتي بدليل سمعي : كتاب ، أو سنة استفادها من نبي معصوم ، أو بلغه عنه ، فالأول : راجح لقوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، والثاني : بقوله تعالى : (وَلا هُدىً) ، والثالث : بقوله تعالى : (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ).
قوله تعالى : (مُنِيرٍ) إشارة إلى ذلك الدليل الذي من الكتاب والسنة قطعي الثبوت ، وقطعي الدلالة ، وأشار الفخر إلى بعض ، قال : وفي الآية حجة من قاعدة المنطق واستعمال لفظه غير ذي الأولى ، لأنها كالمعدولة المقتضية لوجود الموضوع ،