فإن قلت : إنه غير عام فإن فيه الأعرج والأحدب والأعمى ، قلنا : أحكام الخلق له اعتبارات ، فإن اعتبر بالنسبة إلى المفعول فيرد ما قلتموه ، وإن اعتبر بالنظر إلى الفاعل فإنه عام ؛ لأنه فعل كله بحكم متقن دال على اتصافه فاعله بالقدرة والإرادة وصفات الكمال ، وتفاوته لا يقدح في إبداعه ، ويحتمل أن يقال : إن كل أحدب هو أحسن من غيره من الحيوانات ، فمن هو أحدب وأعمى من الناس أحسن من أعمى من غيره.
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(١).
قال ابن عرفة : التعبير عن المنع عن الشيء بلفظ النهي يشعر بأن المكلف بذلك كان ملتبسا به قبل النهي ، والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعبد آلهتهم قط ، وفرق بين قولك : لا تفعل كذا ، وبين قولك : نهيتك من فعل كذا ، فالأول : يقتضي المنع المطلق ، والثاني : يقتضي المنع مما أنت فاعله.
قال : والجواب : أن النهي عن المنتهي يقتضي اتصاف أمثاله به ، والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، كان بين أظهر المشركين فنهي عن أن يتصف بصفاتهم ، قال : وعادة الشيوخ يذكرون سؤالا موردا في حسن الائتلاف ؛ وهو لم أشد لفظ العبادة ولفظ الدعاء لآلهتهم ، وهلا قال : أن أعبد الذين تعبدون ، أو يقول : أن أدعوا الذين تدعون ، أو يقول : إن الذين تعبدون فما السر في ذلك؟
قال : فأجابوا : بأن المراد بالعبادة الخضوع ، أي نهيت أن أخضع للذين دعوتهم آلهة ، والخضوع يستلزم أن يدعوهم آلهة بل هو أعم ، فناسب إسناد النهي للأعم المطلق ؛ لكونه يستلزم النهي عما فوق من باب آخر ، فاستعمل الأخص في الثبوت والأعم في النهي.
فإن قلت : قوله تعالى : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) ، مفهومه أنه كان متصفا بذلك قبل مجيء البينات؟ فالجواب : بأن النهي له والمراد غيره ، وإما أن يراد بالبينات مطلق الوحي المنزل عليه وعلى من قبله من الأمم ، ولا شك إنه كان حين بلوغه متشرعا بشريعة إبراهيم صلّى الله عليه وعلى آلهما وسلم ، وإنما يرد السؤال لو قلنا : المراد لما حضر زمن إرساله ونزول الوحي عليه.
قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).
__________________
(١) أورد المصنف في الحاشية : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ ، فيه إشكال عظيم.