والثاني : ما قيّض له من الدين ، وأمره به ، ليتحراه اختيارا مما تختلف فيه الشرائع ، ويعترضه النسخ ، ودل عليه قوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها).
وقال ابن عباس : «الشرعة ما ورد في القرآن. والمنهاج ما ورد في السنة». وقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية. إشارة إلى الأصول تتساوى فيها الملل ، ولا يصح عليها النسخ : كمعرفة الله تعالى ، ونحو ذلك مما دل عليه قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) سورة النساء آية ١٣٦.
ويدل هذا كله على أن دين الأنبياء ، والرسل واحد ، وأما شرائعهم فمتعددة ... الخ.
ثانيا : إن الديانة الإسلامية عامة ، وشاملة ، وعالمية ، وليست خاصة ، وهي أبدية ، ومؤبدة ، وممتدة ، وليست وقتية. فقد نزلت لجميع الأمم ، والأزمان ، والأمكنة. بينما الشريعتان اليهودية ، والمسيحية خاصتان ومؤقتتان. وقد نزلتا فقط لبني إسرائيل ، ومؤقتتان تنتهيان بقدوم ، ونزول الإسلام. ولذلك لا يقارن الإسلام بهما ؛ وهو لا يفصل نفسه عن السياسة أبدا. وشواهده العالمية ، والأبدية في الهداية ، والحكم ، والفرضية ، والتكليف ، تؤهلانه لأن يكون دين دولة ، وعبادة ؛ ودين روح وسياسة ؛ ودين تعبد ، واقتصاد ، ودين تأمل ، واجتماع ؛ ودين دنيا ، وآخرة. وبذلك فالعلمانية ، وهي تستند في شبهتها بفصل الدين عن السياسة إلى شرائع اليهود ، والنصارى ، فإن شواهدها قد تسمح لذلك ؛ فلا عجب عندهم أن يعطى ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر. ولا عجب أن تمنع الكنيسة عن التدخل في شئون السياسة ، ويبقى البابوات ، والقساوسة ، والرهبان ، والأحبار منعزلين يمارسون فقط شعائرهم الدينية في كنائسهم وأديرتهم. فدياناتهم وضعية ، وسمة الوضع يكمن في الفصل ، والإبعاد ، والتغيير. وهذا كله يتنافى مع شريعة الإسلام الناسخة لشرائعهم أولا ، والهادية للبشرية ثانيا ؛ والأبدية ثالثا ؛ والعالمية للإنسانية