ولعل من المفيد أن نختم الرد على هذه الشبهة بما قاله المفكر المسلم محمد عبد الله دراز في كتابه «النبأ العظيم» حيث يقول : «هذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم «الوحي النفسي» زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد ، وما هو بجديد ، وإنما هو الجاهلي القديم ، لا يختلف عنه في جملته ، ولا في تفصيله ، فقد صوروا النبي «صلىاللهعليهوآلهوسلم» رجلا ذا خيال واسع ، وإحساس عميق ، فهو إذن شاعر ، ثم زادوا ، فجعلوا وجدانه يطغى كثيرا على حواسه ، حيث يخيل إليه أنّه يرى ويسمع شخصا يكلمه. وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجدانه ، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات ، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة الوحي النفسي حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية ؛ فقالوا لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة ، فهو إذن قد علمه بشر. فأي جديد ترى في هذا كله؟!! أليس كله حديثا معادا يضاهون به قول جهال قريش!! وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة متسخة ، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه ، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى مصداق قوله تعالى في سورة البقرة : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ١١٨. وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنّه كان صادقا أمينا ، وإنّه كان معذورا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي ؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيا إلهيا ، فما شهد إلا بما علم ، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم ، حيث يقول في سورة الأنعام : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الآية ٣٣. فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه ، فما عذره في دعواه أنّه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا ، بينما هو سمعها بزعمهم من قبل. فليقولوا إذن : إنّه افتراه ، ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. وهم يدعون التعقل ، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون».