مر العصور لم يكن أبدا نكرانا لها أو خروجا على أصولها ، حتى وبالنسبة عمن اشتهر بظلمه من الحكام المسلمين : كالحجاج بن يوسف الثقفي. وهو في ظلمه لم يتنكر للشريعة الإسلامية أبدا ، ولو تجاوز في حكمه السياسي تثبيتا للحكم الأموي ، وهذا الحاكم في ظلمه لأشد عدلا من عدل أي حاكم علماني ، أو نصراني ، أو يهودي ، أو شيوعي ملحد. ولا نقول هذا على عواهنه. فشريعتهم وضعية ، فهي تبقى ظالمة ، وشريعتنا إلهية فهي تبقى عادلة. فالحجاج ـ ونحن نقر أنّه قتل عبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ـ كان من أتقى النّاس ، وقرّاء القرآن ، والبكائين من خشية الله في الليالي الطوال.
والحجّاج ـ ونحن نعترف أنّه قتل الكثيرين ، وسجنهم في العراق ـ كان قد أصلح رسم القرآن في أحد عشر موضعا ؛ فأصبح أوضح قراءة ، وأيسر فهما. كما ذكر أبو داود في كتابه المصاحف ، وكما ذكر أيضا : أنّ الحجاج أمر بتشكيل ، وتعجيم المصحف.
وكما ذكر أيضا أبو أحمد العسكري في كتابه التصحيف : أن نصر بن عاصم الليثي هو أوّل من نقّط القرآن بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي حين سأله كتابه أن يضعوا علامات على الحروف المتشابه (١).
وكما ذكرت كتب التفاسير وعلوم القرآن أن الحجّاج بن يوسف الثقفي كان أغير النّاس على الدين ، وأشدهم تطبيقا للشريعة الإسلامية ؛ وأكثرهم حرصا على سيادة أحكامها سواء بالنسبة للمسائل المدنية ، أو العسكرية. وحروبه للخوارج تشهد له على جهاده. وقد ذكرت تلك الكتب أيضا أن الحجاج بن يوسف الثقفي من أكثر الحكام خدمة للقرآن الكريم ، وإصلاحا لكتابته ، ورسمه ، وتجزئته ، وتحزيبه ، وتعشيره ، وإحصاء آياته ، وكلماته ، وحروفه. وهي تذكر أنّ سلامة أبا محمد
__________________
(١) ابن خلكان. كتاب : وفيات الأعيان. طبعة ١٣١٠ ه ـ ص ١٢٥.